لقد
فرض الله الزكاة لحكم جليلة، وأهداف سامية نبيلة، منها ما يعود على الفرد،
سواء كان معطياً للزكاة أم آخذاً لها. ومنها ما يعود على المجتمع بحفظ
أمنه، وتحقيق مصالحه، وحل مشاكله.
والغرض الأكبر، والحكمة العظمى من فرض الزكاة - بعد تحقيق العبودية لله - هو تحقيق التكافل الاجتماعي بنوعية : المعنوي، والمادي.(1)
أما تحقيقها للتكافل المعنوي فمن عدة وجوه أهمها ما يلي: -
1-
أن دفع الزكاة لمستحقيها، سبب لتأليف القلوب، وتأنيس النفوس، وإشاعة جو من
التعاطف والتراحم، والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع.
2- أنها سبب لتحقيق التعارف والتواصل بين المؤمنين، وتأكيد الأخوة والمحبة بينهم.
وليس
شيء أجلب لمحبة الناس، وكسب مودتهم من الإحسان إليهم، ومد يد العون لهم،
وإسداء المعروف إليهم، والسعي في مصالحهم، والتخفيف من آلامهم.
وفي الحكمة (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)(2)
وقد صدق القائل(3):-
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
|
فطالما استعبد الإنسانَ إحسان
|
3-
أنها سبب لتنمية الروح الاجتماعية بين أفراد المجتمع. حيث يشعر دافع
الزكاة بعضويته الكاملة في الجماعة، وتفاعله معها، ومشاركته في تحقيق
مصالحها، وحل مشاكلها، والنهوض بها. فتنمو شخصيته، وتزكو نفسه، وينشرح
صدره، ويرتفع كيانه المعنوي، ويشعر بسعادة غامرة وهو يواسي إخوانه، ويقوم
بواجبه تجاه مجتمعه.
كما
يشعر آخذ الزكاة، بقيمته وقدره، وأنه ليس شيئاً ضائعاً، ولا كماً مهملاً،
وإنما هو في مجتمع كريم يعنى به ويرعاه، ويأخذ بيده، ويعينه على نوائب
الدهر.
فيحمله
ذلك على محبة مجتمعه، والتفاعل معه، ويبقى قلبه سليماً، خالياً من الحقد
والحسد، مقدراً لإخوانه الأغنياء، معترفاً بفضلهم وبذلهم، داعياً لهم
بالبركة والتوفيق وسعة الرزق.
فالزكاة
تستل سخائم الفقراء، وتزكي نفوسهم من الضغينة والبغضاء، والحسد لأهل المال
والثراء، بل تجعل الفقير يدعو لهم بالبركة والزيادة والنماء. وبهذا يتحول
المجتمع إلى أسرة واحدة، تجللها المحبة والوفاء، ويسودها التعاون والإخاء.
4- أنها سبب لإشاعة الأمن والطمأنينة.
فهي أمان للآخذ والمعطي، والمجتمع بعامة.
أما الآخذ فإن له في أموال الزكاة ما يغنيه، ويجعله آمناً مطمئناً، شجاعاً عزيزاً، يواجه المستقبل بنفس راضية، وعزيمة ثابتة.
وأما
المعطي فإنه مطمئن إلى مستقبله، واثق من عون الله له، وحفظه لماله،
ووقايته من الآفات، وأنه إن قدر الله غير ذلك، وعدت عليه عوادي الزمان،
واجتاحته صروف الليالي والأيام، وأصبح فقيراً بعد الغنى، فإن له في مال
إخوانه ما هو كفيل بجبر خلته، وسد حاجته، فيشعر أن قوة إخوانه قوة له إذا
ضعف، وغناهم مدد له إذا أعسر.
وأما المجتمع، فإن الزكاة سبب لتماسكه وتآلفه، وتضامنه وتكافله، ووقايته من رياح التفكك والتصرم، وأعاصير الظلم والجرائم.
وأما تحقيقها للتكافل المادي،
فهو أظهر من أن يذكر، وهو المقصود الأصلي من شرعيتها، فإن الله - تعالى -
إنما شرع الزكاة مواساة للفقراء والمحتاجين، وقياماً بمصالح المسلمين.(4)
والزكاة ليست مورداً قليلاً أو ضئيلاً، بل هي العشر أو نصف العشر من الثروة الزراعية من الحبوب والثمار.
وهي ربع العشر من الأثمان، والثروة التجارية، والثروة المعدنية.
وهي نحو هذا المقدار من الثروة الحيوانية، حسبما سبق تفصيله.(5)
وقد
تبين حين الكلام عن مقدار ما يدفع لكل مصرف من مصارف الزكاة: أن المحتاجين
من الفقراء، والمساكين، والرقاب، وأبناء السبيل يعطون ما يكفيهم، ويسد
حاجتهم.
وأن
العاملين لمصلحة المسلمين من العاملين على الزكاة، والمؤلفة قلوبهم،
والغارمين لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، يأخذون قدر ما يكافيء
عملهم، ويصلح لمثلهم.
وبهذا
تكون الزكاة أول تشريع منظم لتحقيق التكافل المادي، أو ما يسمى بالضمان
الاجتماعي، الذي لا يعتمد على التبرعات الفردية الوقتية، بل يقوم على
مساعدات حكومية دورية منتظمة، غايتها تحقيق الكفاية لكل محتاج : الكفاية في
المطعم والملبس والمسكن، وسائر الحاجات، بما يكفل له ولعائلته مستوى
معيشياً ملائماً من غير إسراف ولا تقتير.(6)
ولو أن أهل الأموال جميعهم أخرجوا زكاة أموالهم، وصرفوها لمستحقيها، لما بقي في المسلمين فقير. وما احتاج فقير إلا بما منع غني.(7)
يقول
محمد رشيد رضا: "ولو أقام المسلمون هذا الركن من دينهم لما وجد فيهم - بعد
أن كثرهم الله، ووسع عليهم في الرزق - فقير مدقع، ولا ذو غرم مفجع. ولكن
أكثرهم تركوا هذه الفريضة، فجنوا على دينهم وأمتهم، فصاروا أسوأ من جميع
الأمم حالاً في مصالحهم المالية والسياسية"(8)
وكما
أن الزكاة تحقق التكافل المادي، عن طريق دفعها لمستحقيها من الفقراء
وغيرهم، فإنها تحقق هذا التكافل من جهة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن الزكاة
سبب لتنشيط الحركة التجارية، وذلك بتحريك الأموال وتداولها واستثمارها، حيث
يعلم مالكها أنه إن لم يستثمرها، ويسعى لتشغيلها وتنميتها، فسوف تأكلها
الزكاة، وتقتطع جزءاً منها في كل عام.
وبذلك
صارت الزكاة باعثة لهمم أصحاب الأموال، لكي يستثمروها وينموها، ومن ثم
ينتعش الاقتصاد، وتنشط الحركة التجارية، ويكثر الإنتاج، وتفتح مجالات رحبة
للعمل والكسب، فتنحسر البطالة، وتتوفر فرص العمل، ويستغني القادرون على
العمل بما يكسبونه بجهودهم وكد أيمانهم.
كما أنها إذا زادت أموال الأغنياء، زادت نسبة الزكاة فيها، فينتفع بذلك أهل الزكاة والمستحقون لها.
وهذا كله من حِكم إيجاب الزكاة في النقود، حيث ينتفع الآخذ والمعطي، ويحصل التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع.
يقول
الدكتور يوسف القرضاوي: "إن مهمة النقود أن تتحرك وتتداول، فيستفيد من
ورائها كل الذين يتداولونها، وأما اكتنازها وحبسها، فيؤدي إلى كساد
الأعمال، وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية بصفة
عامة.
ومن
هنا كان إيجاب الزكاة كلّ حول فيما بلغ نصاباً من رأس المال النقدي - سواء
ثمّره صاحبه أم لم يثمره - هو أمثل خطة عملية للقضاء على حبس النقود
واكتنازها. ذلك الداء الوبيل الذي حار علماء الاقتصاد في علاجه، حتى اقترح
بعضهم أن تكون النقود غير قابلة للاكتناز بأن يحدد لها تاريخ إصدار، ومن ثم
تفقد قيمتها بعد مضي مدة معينة من الزمن، فتبطل صلاحيتها للادخار والكنز.
وتسمى هذه العملة المقترحة (النقود الذائبة).
وقام
بعض رجال الغرب الاقتصاديين بتنفيذ فكرة أخرى، هي فرض رسم "دمغة" شهرية
على كل ورقة نقدية حتى يحاول كل من يحوزها في يده التخلص منها قبل نهاية
الشهر، ليدفع الرسم غيره. وهذا يؤدي إلى نشاط التبادل، واتساع حركة
التداول، وانتعاش الاقتصاد بوجه عام.
وهذه
الوسائل - ما اقترح منها وما نفّذ فعلاً - تلابسها صعوبات وتعقيدات كثيرة،
ولكنها على أية حال، تؤيد وجهة النظر الإسلامية في النقود، ومقاومة
اكتنازها بطريقة أبسط وأيسر من تلك الطرق، وهي فرض اثنين ونصف بالمائة
عليها سنوياً، مما يحفز الإنسان حفزاً إلى تنميتها واستغلالها، حتى تنمى
بالفعل، وتدرّ دخلاً منتظماً، وإلا أكلتها الزكاة بمرور الأيام"(9)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق